- إيران والولايات المتحدة الأمريكية خيارات التصعيد والمهادنة..

الأربعاء, 08-يناير-2020
صعدة برس -
شهدت المنطقة مؤخراً حالة من الشد والجذب ما بين الولايات المتحدة وإيران في ظل وصول الرئيس الأمريكي الأكثر جدلاً في تاريخ الولايات المتحدة دونالد ترامب المشهور بعداءه الشديد لإيران وسياساتها الخارجية في المنطقة، على نحو دفعه للانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني الذي وقعه سلفه أوباما، بل وزاد الأمر عن ذلك الحد إلى قيامه بفرض العقوبات من جديد على إيران على الرغم من حالة الاعتراض الدولية على قراراته أحادية الجانب تلك، ونتيجة لتلك التطورات باتت منطقة الشرق الأوسط أكثر اشتعالاً في ظل تبادل التصريحات العدائية بين الطرفين والتي كان آخرها تهديد الرئيس الأمريكي بتصفير صادرات النفط الإيرانية والتي تعد عصب الاقتصاد الإيراني، علاوة على إرساله حاملة الطائرات الأمريكية إبرام لينكولن مصحوبة بقاذفات بي-52 ستراتوفورتريس، وهو ما دفع الكثير من الباحثين للتكهن لحرب جديدة للولايات المتحدة في المنطقة ولكن ضد إيران هذه المرة وهو الأمر الذي دائماً ما كان يتم التكهن به مع كل أزمة تشهدها العلاقات بين الدولتين منذ الثورة الإيرانية وحتى الآن، حيث دائماً ما كانت واشنطن تهدد باستخدام العصا العسكرية تجاه إيران، إلا أنها كانت ما تتراجع بعد ذلك لأسباب عدة، ولكن فإن الأمور الآن على صفيح ساخن ما يزيد من احتمالية حدوث تلك الضربة هذه المرة خاصة مع وجود ترامب على رأس سلطة الولايات المتحدة والذي صرح بعداءه لطهران ونظامها في أكثر من مناسبة وعبر عن رغبته في انهاء الخطر الإيراني في المنطقة.

ومن هذا المنطق فإننا سنتحدث عن طبيعة العلاقات الأمريكية الإيرانية ما بعد الثورة الإيرانية وما هي الاختلافات ما بين طهران وواشنطن، علاوة على توضيح المسار الزمني للاتفاق النووي والأسباب التي دفعت ترامب للانسحاب من الاتفاق وإعادة العقوبات من جديد، مع توضيح أثر تلك العقوبات على الاقتصاد الإيراني، وفي الأخير فإننا سنقدم رؤيتنا الاستشرافية حول مستقبل الصراع الإيراني الأمريكي في المنطقة.



العلاقات الأمريكية الإيرانية ما بعد الثورة الإيرانية:

كانت إيران في الماضي ما قبل الثورة الإيرانية أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إلا أن اندلاع الثورة الإيرانية 1979م كان سبباً في توتر العلاقات بين الدولتين خاصة بعد حادث احتجاز الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران، والذي أدى إلى فرض الولايات المتحدة للعقوبات الاقتصادية على إيران، بل وقامت بوضعها على قائمة دول محور الشر، وبدا أنها أيضاً كانت تخطط لضربة عسكرية ثالثة في المنطقة تكون من نصيب إيران بعد ضرب العراق وأفغانستان، ولكن فإن الخسائر التي عانتها الجيوش الأمريكية في المنطقة، وتوغل النفوذ الإيراني على حسابها بدعمها للميليشيات الشيعية في العراق وبعض الميليشيات التابعة لطالبان في أفغانستان، أدى إلى نجاة إيران من ضربة أمريكية محققة، ولكن ظلت العقوبات الاقتصادية كما هي وزادت الرغبة الأمريكية في عزل النظام الإيراني عن التفاعلات الدولية السياسية والاقتصادية.

ومع مجيئ إدارة باراك أوباما الديمقراطية إلى السلطة عملت على تسوية الملف الإيراني خاصة في شقه النووي سعياً وراء حل الأزمة وانهاء مشكلات الشرق الأوسط والتفرغ لآسيا الوسطى والباسيفك التي كانت قد شهدت سيطرة متزايدة من قبل الصين وروسيا؛ ما قد يهدد النفوذ الأمريكي العالمي؛ لذا رأت إدارة أوباما ضرورة تسوية الملف الإيراني للتفرغ لما يحدث في آسيا من تطورات لم تكن الولايات المتحدة لتغض الطرف عنها، وبالفعل وبعد مفاوضات مطولة نجحت الولايات المتحدة في التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني بصيغته الحالية، ما جعل البعض يتنبأ ببداية صفحة جديدة في العلاقات ما بين الولايات المتحدة وإيران، إلا أن الأمور لم تسر على هذا النحو؛ فرغم التزام إيران بنصوص الاتفاق النووي وتقليلها لقدراتها على تخصيب اليورانيوم، إلا أن الغرض الرئيسي من الاتفاق لم يتحقق فلم تنتهي أزمات الشرق الأوسط بل زادت وأصبحت المنطقة على شفا فوضى شاملة وزاد التدخل الإيراني في المنطقة، وتصدت للمشروع الأمريكي لنقل الغاز القطري إلى أوروبا لينافس غاز حليف إيران الرئيسي روسيا، ما دفعها للضغط على سوريا لرفض العرض الغربي، وقدمت مشروعاً بديلاً أدى إلى اندلاع رحى الحرب السورية التي شاركت فيها إيران بدعم نظام الأسد لوجيستياً ومالياً وعسكرياً عبر ميليشياتها المختلفة وعلى رأسها حزب الله، ومع تطور الأوضاع بتدخل روسيا في الحرب، وانسحاب الولايات المتحدة التدريجي من الأزمة تزايد النفوذ الإيراني في سوريا إلى حد أن صار لها قواعد عسكرية هناك، وقد تزامن ذلك مع فوز إدارة جديدة بقيادة الولايات المتحدة رأت أنه لابد من تقليص دور إيران في سوريا.



ومن هنا رأت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب ضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي لأنه أصبح بلا قيمة من وجهة نظره كما عادت واشنطن لتفرض العقوبات الأمريكية من جديد على طهران، هذا ولا تزال الأمور في تصاعد مستمر ما بين الطرفين حتى لحظة كتابتنا لتلك السطور.

الطريق إلى الاتفاق النووي:

كانت المعارضة الأوروبية قد كشفت للغرب عام 2002م عن البرنامج النووي الإيراني السري، وعلى الرغم من التهديدات الدولية لإيران للتراجع عن برنامجها النووي، إلا أنها رفضت وقامت بإنشاء مفاعل من تصميمها عام 2004م بقدرة 40 ميغاوات يستخدم تقنية الماء الثقيل واليورانيوم الطبيعي المتوفر لدى إيران؛ ومن ثم فإن إيران باتت قادرة على تصنيع السلاح النووي بالفعل، ونتيجة لذلك بدأت الجماعة الدولية في الدخول في مفاوضات مع النظام الإيراني بهدف إثناءه عن عزمه، وكان من أهم تلك الجولات الزيارة التي قام بها خافيير سولانا مفوض الاتحاد الأوروبي للشئون الأمنية والسياسية، والذي كانت قد أخبر النظام الإيراني أنهم سيسمعون أخباراً سيئة ما لم يقوموا بالتوقيع على البروتوكول الإضافي الخاص بمعاهدة الحد من الانتشار النووي الصادر عام 1997م والذي يسمح لمفتشي منظمة الوكالة الذرية بتفتيش المنشآت النووية الإيرانية، وقد امتثلت إيران للطلب الأوروبي؛ خاصة بعد زيارة بريطانيا وفرنسا وألمانيا لإيران، والتي اتفقوا فيها على توقيع إيران على البروتوكول الإضافي في مقابل اعتراف الاتحاد بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية السلمية.

وبالفعل وقعت إيران على البروتوكول عام 2003م، إلا أن تصرفاتها اللاحقة دفعت الوكالة للقول بأن إيران قد انتهكت التزاماتها في معاهدة الحد من الانتشار النووي؛ ما دفع الوكالة لنقل ملف البرنامج النووي الإيراني إلى مجلس الأمن عام 2006م؛ ليصدر المجلس في ديسمبر من نفس العام أول قرار دولي بفرض عقوبات اقتصادية على إيران نتيجة لبرنامجها النووي، كما قام الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات إضافية على إيران سعياً لإجبارها على الامتثال للقرارات الدولية؛ خاصة مع تأكيد الوكالة أن نسبة تخصيب اليورانيوم الإيراني قد وصلت إلى 20% وليس إلى 3.5% فقط كما كانت تقول طهران.



ورغم ذلك استمرت إيران على سياساتها الرافضة لطلبات الغرب؛ ما دفع دول الاتحاد الأوروبي الكبرى بالتعاون مع الولايات المتحدة، لأن تفرض عقوبات كانت هي الأشد على إيران واقتصادها وذلك في عام 2012م؛ عندما فُرضت عقوبات على البنك المركزي الإيراني وعائداته من النفط؛ كما تم الحظر على بنوك العالم على استكمال المعاملات النفطية مع إيران باستثناء بعض دول آسيا بشرط تقليصها لوارداتها من النفط الإيراني، لم يقف الأمر عند هذا الحد فأعلن الاتحاد الأوروبي مقاطعته للنفط الإيراني، إلى جانب فرضه عقوبات على البنوك والتجارة مع إيران مع تجميد أصول أفراد يمدون إيران بالتقنيات النووية.
بالطبع كانت تلك العقوبات تستهدف بشكل رئيس قطاع النفط الإيراني الذي كان ولايزال أهم مصادر عائدات الاقتصاد الإيراني؛ خاصة وأنه في تلك الفترة كانت عائدات البترول الإيراني تشكل نحو 70% من اجمالي عائدات الاقتصاد الإيراني، كما شكلت أكثر من نصف إيرادات إيران؛ ما مثل ضربة قوية هزت الاقتصاد الإيراني، وقد أدت هذا العقوبات إلى انخفاض حجم الصادرات الإيرانية من النفط من 2.8 مليون برميل عام 2011م، إلى 1.1 مليون فقط، وهو ما أدى بالطبع إلى تراجع حجم العائدات من 114.8 مليار دولار ما قبل العقوبات إلى 27.13 مليار دولار فقط عام 2015م مع انهاء تلك العقوبات، أي أن تلك العقوبات قد أدت إلى خسارة اقتصاد إيران ما قدره 87.67 مليار دولار خلال ثلاث سنوات فقط، وهذا أدى بدوره إلى انهيار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية بسبب فقدان الاقتصاد الإيراني هذا الرقم الضخم من مليارات الدولارات التي كان يحصل عليها بفضل صادراته النفطية، علاوة على القيود التي فرضتها أوروبا على تجارتها مع إيران وسحب استثماراتها من السوق الإيراني، ومن الجدير بالذكر هنا أن دولاً أوروبية كألمانيا وإيطاليا وفرنسا واليونان كانوا أكبر الشركاء الاقتصاديين لدى طهران منذ عام 2000م؛ ما أدى إلى تراجع قيمة العملة الوطنية أمام الدولار؛ حيث وصل سعر الدولار الواحد إلى 24.8 ألف ريال إيراني (تومان) عام 2013م مقارنة بـ 11.2 ألف ريال عام 2011م، وذلك بسبب تراجع صادرات إيران إلى أوروبا بنحو النصف تقريباً إلى جانب العوامل الأخرى التي ذكرناها، والتي رغم أنها أثرت سلباً على الاقتصاد الإيراني، إلا أنها أعطت الفرصة لإيران حتى تتوجه شرقاً ومع حلول عام 2014م قبل عام من توقيع الاتفاق كانت الصين هي أكبر شريط تجاري لإيران بنحو 41% تليها الهند بنحو 17%.

لم يختلف الحال بالنسبة لباقي المؤشرات الاقتصادية المختلفة، فكان معدل التضخم قد ارتفع بشكل رسمي إلى 35% في عام 2013م مقارنة بـ 21% عام 2011م، علماً بأن بعض التقارير الرسمية قد رفعت هذا الرقم إلى 45%، وكانت نسبة البطالة قد وصلت إلى 14% عام 2014م، وقد زادت بعض التقارير غير الرسمية هذه النسبة بين أوساط الشباب إلى نحو 25%، وقد انعكس كل ذلك على معدل النمو الاقتصادي الإيراني الذي شهد انخفاضاً مع تطبيق تلك العقوبات بنحو 6.8%، وكانت معدل النمو الحقيقي قد وصل إلى -3% مع تولي الرئيس الإيراني روحاني سدة الحكم عام 2013م.



وبالطبع نظراً لكل ما سبق وبسبب الموقف الحازم من الجماعة الدولية خاصة دول الاتحاد الأوروبي التي ساهمت بنحو نصف الضرر التي مُنى به الاقتصاد الإيراني خاصة في مجال النفط، اضطرت إيران إلى الدخول في مفاوضات مع الجانب الأوروبي بشكل رئيسي تلك المفاوضات التي أدت إلى الاتفاق الإطاري في جنيف في نوفمبر عام 2013م بحضور الولايات المتحدة وروسيا والصين إلى جانب الدول الأوروبية الكبرى الثلاث بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وقد نصت الاتفاقية على عدم تخصيب اليورانيوم بنسبة أكبر من 5% في مقابل الافراج عن نحو 700 مليون دولار شهرياً من البنوك الغربية، وعلى الرغم من التأجيلات المتتالية لدخول الاتفاق حيز النفاذ، إلا أنه وُقع بالفعل في يوليو 2015م.

التعريف بالاتفاق النووي وبنوده:

يعرف الاتفاق رسمياً باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، وتم توقيعه في يوليو 2015م بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا من جهة وإيران من جهة أخرى.

كان الاتفاق قد وقع بعد جولات من المفاوضات بهدف الحد من الطموح الإيراني في امتلاك سلاح نووي يهدد أمن المنطقة وخاصة إسرائيل الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة، ما دفع الولايات المتحدة لحشد الدعم الدولي للتوصل لهذا الاتفاق. وقد كانت أبرز بنود الاتفاق النووي ما يلي:

تخفيض نسبة تخصيب إيران لليورانيوم إلى نسبة 3.67%، إلى جانب خفض المخزون الإيراني من اليورانيوم من 10 آلاف كلجم إلى 300 كلجم، وخفض عدد أجهزة الطرد المركزية إلى 5060 جهازاً فقط، كذلك نص الاتفاق على تحويل المفاعل النووي الإيراني فوردو وهو المنشأة الإيرانية الرئيسية لتخصيب اليورانيوم إلى مركز لأبحاث الفيزياء والتكنولوجيا النووية، إلى جانب منع إنشاء أي مفاعل نووي يعمل بالماء الثقيل، وحظر بناء أية منشآت نووية جديدة طيلة 15 عاماً، والسماح بدخول مفتشي وكالة الطاقة الذرية الدولية إلى إيران للتأكد من التزامها ببنود الاتفاق النووي وهذا البند يسمح للمفتشين أيضاً بالدخول إلى مواقع عسكرية إيرانية وذلك بالتنسيق مع الحكومة الإيرانية، أما من جانب البرنامج الصاروخي الإيراني فقد كان الاتفاق قد نص على حظر استيراد إيران للقطع المستخدمة في تصنيع الصواريخ الباليستية لمدة ثمان سنوات إلى جانب حظر استيراد الأسلحة نفسها لمدة خمس سنوات؛ أي أن إيران محظورة من استيراد الأسلحة الباليستية حتى عام 2020م بموجب هذا الاتفاق، كل ذلك كان في مقابل رفع الغرب للعقوبات الدولية المفروضة على التعاملات المالية والتجارية مع إيران والإفراج عن الأصول المالية الإيرانية المجمدة في البنوك الغربية، والسماح لإيران باستئناف تصدير النفط إلى الغرب ولكن كل ذلك بشكل تدريجي.



كان الاتفاق النووي من وجهة نظر إدارة أوباما صفقة مربحة للطرفين، فمن جهة طهران سوف يتم الافراج عن أصولها المالية المجمدة وسيتم استئناف صادرات البترول ذات الأهمية القصوى للاقتصاد الإيراني، كما ستعود الاستثمارات الغربية إلى السوق الإيراني المتعطش لها بطبيعة الحال، وهو ما قد يسهل دمج الاقتصاد الإيراني في الاقتصاد العالمي ويجعل إيران أكثر اعتماداً على الغرب وبالتالي أكثر اهتماماً بتحقيق مصالحه ومصالح حلفاءه وعلى رأسهم إسرائيل بطبيعة الحال، ومن جهة الولايات المتحدة فإن انهاء الملف الإيراني أو تأجيله على الأقل كان سيضمن للولايات المتحدة التفرغ لمواجهة العملاق الصيني الزاحف على آسيا بقوة اقتصادية هائلة تتحدى الهيمنة الأمريكية بل والنظام الاقتصادي الغربي بكامله، خاصة وأن الصين كانت أكبر المستفيدين من حالة المقاطعة الغربية لطهران لتملأ الفراغ الاقتصادي في الداخل الإيراني عبر ضخ استثماراتها وحصولها على وارداتها من النفط عبر طهران، مستغلة كونها من الدول التي تم استثنائها من العقوبات الأمريكية على استيراد النفط الإيراني كما ذكرنا، هذا علاوة إدراك الإدارة الأمريكية أن نظاماً إقليمياً بإيران أفضل لمصالحها ولمصالح حليفتها إسرائيل من نظام إقليمي بدونها وهو ما سيحفظ التوازن في المنطقة ويجعل إمكانية اندلاع حرب إقليمية شبه مستحيلة في ظل ما حدث للعراق سابقاً، وعلى اعتبار أن النظام الإيراني سيضطر إلى الانغماس في الاقتصاد العالمي ومن ثم يصبح أكثر اعتمادا على المساعدات والدعم الغربي، وبالتالي لن يكون في مصلحته معاداة الغرب ومصالحه في المنطقة، وهو ما انعكس على تصريحات الرئيس السابق أوباما عقب توقيع الاتفاق مع إيران؛ حيث قال إن إيران ستكون “وينبغي” أن تكون قوة إقليمية، إنها بلد كبير ومتطور في المنطقة، ولا تحتاج إلى معاداة أو معارضة جيرانها من خلال سلوكها.

لكن الأمور لم تسر على الرغبة الأمريكية، فتزايد التدخل الإيراني في الشأن السوري حفاظاً على مصالحها لدى نظام بشار الأسد الذي رغب الغرب في اسقاطه، هذا علاوة على تزايد نفوذ الحوثيين في اليمن وتهديدهم للتجارة الدولية المارة بالبحر الأحمر قرب مضيق باب المندب والخليج العربي، علاوة على استمرار دعمها لميليشيا حزب الله اللبناني وتزويدها بالعديد من الأسلحة المتطورة التي باتت تهدد أمن إسرائيل الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما عبرت عنه صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية في تقرير لها عام 2017م؛ حيث تحدثت عن تطور رهيب في الترسانة الصاروخية لحزب الله في لبنان؛ حيث ذكرت الصحيفة أنه كان لدى الحزب عام 2006م ما يقرب من 15 ألف صاروخ، إلا أنه صار يملك بعد ذلك ما يزيد عن الـ 130 ألف صاروخ يستطيع أن يطلق منهم نحو ألف صاروخ يومياً على إسرائيل في أي حرب مستقبلية، وهو ما يوضح مدى الخطر الذي بات يتهدد أمن إسرائيل خاصة وأن الأخيرة كانت قد انغمست في الصراع داخل سوريا بسبب توجه إيران إلى إقامة قواعد عسكرية في الجنوب السوري؛ ما هدد التواجد الإسرائيلي في الجولان كما يسهل من عملية نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان؛ حيث ترى إسرائيل أن تلك القواعد هي بالأساس قواعد لحزب الله المدعوم من إيران، وهو ما فسر غاراتها المختلفة على تلك المنطقة.

ومن هنا بات واضحاً أمام القيادة الأمريكية الجديدة بزعامة دونالد ترامب أن الاتفاق النووي لم يحقق المصالح الأمريكية، وإنما كانت إيران المستفيد الأكبر اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً؛ حيث صار النفوذ الإيراني أقوى من ذي قبل، إلى الحد الذي دفع المسئولين الإيرانيين للتباهي بسيطرتهم على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، علاوة على رؤية ترامب لأن الاتفاق النووي لم يعالج مسألة غاية في الخطورة وهي مسألة التسليح الإيراني والصواريخ الباليستية، علاوة على استمرار الدعم الإيراني لمختلف الميليشيات الشيعية في مختلف بقاع العالم وعلى رأسهم حزب الله والحوثيين بطبيعة الحال، هذا إلى جانب أن الاتفاق النووي لم يحدد آلية فعالة لفرض العقوبات على إيران في حال خرقها للاتفاق، فأي انتهاك قد يحدث سواء كان صغيراً أو كبيراً فإن العقوبة واحدة هي إعادة فرض العقوبات، وبالتالي لن يكون أمام إيران ما تخسره، وبالتالي رأى ترامب أن الإدارة السابقة ركزت اهتمامها فقط على حل الاتفاق النووي فقط معتقدة أن ذلك كفيلاً بأن يعيد التوازن إلى المنطقة بعدما كان قد اختل كثيراً عقب اسقاط النظام العراقي، إلا أن ذلك لم يحدث. ومن هنا اتخذت القيادة الجديدة قرارها الشهير بالانسحاب من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات رغم المعارضة الدولية، وهو القرار الذي لا تزال آثاره ظاهرة للعيان إلى الآن، خاصة وأن إيران قد قررت مؤخراً تعطيلها للالتزام ببعض مقررات الاتفاق نتيجة للانسحاب الأمريكي وهو القرار الذي أيدته روسيا حتى الآن على لسان وزير خارجيتها سيرجي لافروف.

تطورات الأحداث ما بعد الانسحاب الأمريكي:

تطورت الأحداث بشكل كبير في الداخل الإيراني على إثر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق الإيراني وإعادة فرض العقوبات من جديد والتي تمثلت في:
عقوبات على قطاع الحديد والألمونيوم وصناعة السيارات والفولاذ إلى جانب الذهب وغيره من المعادن وهو الأمر الذي أثر على التعاملات الإيرانية الخارجية، هذا إلى جانب إعادة فرضها العقوبات على قطاع النفط الإيراني؛ حيث حظرت على الشركات الأجنبية التي ستتعامل مع الاقتصاد الإيراني خاصة في مجال الطاقة من التعامل مع السوق الأمريكي، مع استثناء ثمان دول من هذا القرار لمدة ستة أشهر في مقابل تخفيض وارداتها من النفط الإيراني وهم، الصين والهند وتركيا واليابان وكوريا الجنوبية، إلى جانب تايوان واليونان وإيطاليا، وهو الأمر الذي مثل ضربة قاصمة للاقتصاد الإيراني؛ حيث اضطرت معظم الشركات الأوروبية التي كانت قد دخلت السوق ما بعد الاتفاق إلى الانسحاب من السوق الإيراني ومنها جينرال إليكتريك الأمريكية، بيونج، وشل الألمانية وتوتال الفرنسية وغيرها من عمالقة الشركات الأوروبية التي آثرت علاقاتها مع السوق الأمريكي الأكبر بطبيعة الحال على الرغم من المحاولات الأوروبية المختلفة لإثنائها عن عزمها، إلا أنها انسحبت في النهاية، ما أدى إلى تدهور حاد شمل كافة قطاعات الاقتصاد الإيراني وعلى رأسها قطاع الطاقة بطبيعة الحال؛ حيث سرعان ما تراجعت الصادرات النفطية بنسبة 16% في النصف الأول من يونيو أي عقب شهر واحد من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وذلك بسبب توقف كبرى شركات النفط الأوروبية عن التعامل مع السوق الإيراني على نحو ما أسلفنا، وهو ما انعكس بدوره على سعر العملة الوطنية التي انهارت بشكل لم يسبق له مثيل ليصل سعر الريال الإيراني الرسمي إلى 4200 للدولار الواحد بينما وصل في السوق الموازية إلى ما يزيد عن ضعف هذا الرقم على الرغم من المحاولات الإيرانية المختلفة لتثبيته ومحاولة تقليل تلك الفجوة الضخمة ما بين السعرين، وهو ما انعكس بدوره على مختلف المؤشرات الاقتصادية الأخرى خاصة مع تدهور حجم صادرات البترول من 3.8 مليون برميل أوائل عام 2018م، إلى 1.1 مليون برميل فقط يومياً بعد إيقاف معظم الدول الأوروبية لوارداتها من البترول الإيراني، وتخفيض أكبر مستوردي آسيا الهند والصين لوارداتهما من النفط الإيراني بنسب وصلت إلى 47%؛ حيث خفضت الصين على سبيل المثال وارداتها من 590 ألف برميل نفط يومياً ما قبل القرار الأمريكي إلى 360 ألف برميل فقط، ومن الجدير بالذكر أن الصين هي أكبر مستورد للنفط الإيراني.
كل تلك المؤشرات السلبية وغيرها ساهمت بشكل كبير في تدهور المعيشة الداخلية للشعب الإيراني الذي خرج في مظاهرات ضخمة مطالباً الحكومة الإيرانية بإيقاف مغامراتها الخارجية التي كلفتهم الكثير، خاصة وأنه حتى أسعار السلع الأساسية لم تنج من أثر العقوبات الأمريكية؛ فارتفعت أسعار الدجاج والحوم إلى ما يزيد عن الـ 50%، إلا أن النظام الإيراني ظل يرى أن المظاهرات التي مدفوعة من الولايات المتحدة في إطار سيناريو تفجير إيران من الداخل، خاصة مع توالي التصريحات الأمريكية المؤيدة للاحتجاجات الإيرانية.



وعلى الرغم من التدهور الحاد الذي شهده الداخل الإيراني استمرت القيادة الإيرانية في تصريحاتها القوية والمهددة في مواجهة الولايات المتحدة؛ حيث تعددت تصريحات إيران وقياداتها السياسية والعسكرية حول الحرب واغلاق مضيق هرمز والتي كان منها تصريح رئيس الأركان الإيراني الجنرال محمد باقوري بأن الجيش الإيراني مستعد في أي وقت لإغلاق مضيق هرمز في حالة ما إذا حاولت أياً من الدول إثارة المشاكل فيه، مضيفاً أنه إذا لم تستطع إيران تصدير نفطها عبر المضيق فلن تستطيع أي دولة أخرى التصدير، هذا علاوة عن تصريح رئيس الحرس الثوري الإيراني الجديد حسين سلامي عن أن إيران أصبحت في حالة مواجهة شاملة مع العدو تلك التصريحات التي أعقبت ارسال الولايات المتحدة لتعزيزات عسكرية إلى المنطقة، ولم تقف التصريحات الإيرانية على الجانب الأمريكي فقط، فكانت إيران قد وجهت انتقاداتها إلى الموقف الأوروبي أيضاً؛ خاصة وأن إيران توقعت المزيد من الدعم من حلفائها الأوروبيين في الاتفاق وليس مجرد الشجب والإدانة لقرارات وتصرفات الرئيس الأمريكي تجاه طهران.

وعلى الرغم من تقديم أوروبا العديد من المساعدات الاقتصادية لإيران في اعقاب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق والتي كان منها حزمة مساعدات بقيمة 18 مليون يورو في أغسطس 2018م بهدف دعم القطاع الخاص الإيراني والاقتصاد الإيراني في مواجهة العقوبات الأمريكية، إلا أن طهران رأت أن ذلك غير كاف وأن على أوروبا أن تقدم المزيد خاصة مع تزايد الضغوط الأمريكية وانتهاء مهلة الستة أشهر للدول المستثناة من الانتهاء، خاصة وأن إيطاليا واليونان قد خفضتا وارداتهما من النفط الإيراني بالفعل، وعلى الرغم من أن الصين أكبر مستورد للنفط الإيراني كما ذكرنا، لم تعلن بعد بشكل رسمي عن إنهاء استيرادها للنفط تماماً من إيران، إلا أن الضغوط الأمريكية على الصين لا تزال قائمة بل إن العلاقات ما بين البلدين لا تزال تشهد مزيداً من التوتر خاصة بعد وضح الشركة الصينية الشهيرة Huawei على القائمة السوداء للتجارة الأمريكية، وهو ما يزيد من الضغوط على طهران.

حيث وجدت نفسها هذه المرة في موقف شديد الصعوبة؛ حيث تبدو الولايات المتحدة عازمة على حرمان طهران من صادراتها النفطية وعازمة على خنق اقتصادها حتى ترضخ للمطالب الأمريكية، على الرغم من استمرار المطالب من الدول المستثناة لتمديد الفترة أو التراجع عن القرار، إلا أن الردود الأمريكية لا تزال حتى الآن ثابته، وهو ما دفع طهران لأن تلعب بورقة جديدة عندما أعلنت الأربعاء الماضي عن تعليق التزامها ببعض بنود الاتفاق النووي، والتي تمثلت في بيع فائض اليورانيوم المخصب والمياه الثقيلة، بل إن روحاني قد زاد على ذلك بمنحه للدول الكبرى التي لا تزال داخل الاتفاق مهلة 60 يوماً لحماية الاقتصاد الإيراني من العقوبات الأمريكية، وإلا فإن إيران ستعود إلى تخصيب اليورانيوم بنسب أعلى من المنصوص عليها في الاتفاق وهو ما قد يعني حال حدوثه انتهاك إيران للاتفاق بالفعل، وهو الأمر الذي رفضته الدول الأوروبية في بيان لها عقب القرار الإيراني؛ حيث قالوا أنهم سيستمرون في تقييم العلاقات مع طهران على أساس التزامها بالاتفاق النووي، وهو الأمر الذي رد عليه جواد ظريف بقوله إن على أوروبا الوفاء بالتزاماتها في الاتفاق مع طهران، بدلاً من إلزامها بالاتفاق الذي انسحبت منه الولايات المتحدة.

وبجانب تلك التصريحات القوية المتبادلة ما بين القيادات الأمريكية والإيرانية فإن منطقة الخليج قد شهدت عدة هجمات تخريبية مختلفة مؤخراً، كان منها هجوماً على ناقلات نفط سعودية قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي، وهو التفجير الذي يُعتقد بشكل واسع أن وراءه الحرس الثوري الإيراني أو أية ميليشيات أخرى تابعة لإيران، وهو الأمر الذي أكده تقرير نرويجي عن شركات تأمين نرويجية مؤخرا؛ حيث تحدث التقرير عن أن منفذ التفجير على الأرجح هو الحرس الثوري الإيراني، نظراً لتشابه معدات الهجوم مع معدات سبق وأن قدمها الحرس الثوري الإيراني إلى الحوثيين لشن هجمات مماثلة على السفن السعودية في البحر الأحمر بحسب التقرير الذي نقلته وكالة روسيا اليوم، وهو ما قد يتوافق مع تهديدات الحرس الثوري التي سبق أن أشرنا إليها عقب القرارات الأمريكية الأخيرة، وهو ما قد يقوي من احتمالات الصدام في المستقبل، وذلك على الرغم من وجود بعض التصريحات الأخرى التي تتحدث عن التهدئة ونبذ الحرب سواء من جانب الولايات المتحدة أو من جانب إيران، وهو ما ينقلنا إلى النقطة التالية والتي تمثل صلب موضوعنا وهي مستقبل تلك الأزمة المشتعلة وما يمكن أن تؤول إليه الأمور بين الولايات المتحدة وحلفائها وإيران وحلفائها في منطقة أخرى، تلك الأزمة التي قد يتم على إثرها إعادة تشكيل الخارطة السياسية وتوازنات القوى لمنطقة الشرق الأوسط بالكامل، وهو ما سنتحدث عنه في السطور التالية.

الولايات المتحدة وإيران واحتمالات المستقبل:

منذ وصول قيادات الثورة الإسلامية في إيران عقب الثورة واسقاط نظام الشاة الموالي للغرب بزعامة الولايات المتحدة والعلاقات ما بين البلدين في أشد حالات التوتر، بداية من هرب الشاة إلى الولايات المتحدة ورفض الأخيرة تسليمها له وقيام النظام الجديد في طهران باحتجاز رهائن أمريكيين في السفارة الأمريكية بطهران، مروراً بالبرنامج النووي الإيراني والصراع الأمريكي الإيراني على العراق بعد سقوطها، علاوة على النفوذ الإيراني المتزايد بشكل واضح للعيان في المنطقة عبر ميليشياتها وتهديدها للمصالح الأمريكية في المنطقة، كل ذلك ذاد من توتر العلاقات ما بين الدولتين، وقاد الباحثين إلى التكهن بأكثر من مرة بحرب مرتقبة بين الدولتين في المنطقة. حرب تعيد رسم الخارطة السياسية وإعادة تشكيل توازن القوى من جديد، حرب تشبه الحرب التي شنت على العراق من قبل، ولكن في كل مرة، كانت الأزمة تتصاعد ثم تنخفض مرة أخرى حتى وصلت إلى توقيع الاتفاق النووي بين الدولتين، وهو الاتفاق الذي اعتبره البعض صفحة جديدة في العلاقات ما بين الدولتين ستقود في نهاية المطاف لأن يتحول النظام الإيراني من ألد أعداء واشنطن إلى أقرب حلفائها في المنطقة كما كانت الأمور أيام الشاة، إلا أن الأمور لم تسر على هذا النحو على نحو ما أوضحنا، ووصلت الأمور إلى نقطة الصفر من جديد بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق وإعادتها فرض العقوبات من جديد رغم المعارضة الدولية، علاوة على تبادل التصريحات النارية بين الدولتين، والتي كان يتخللها في بعض الأحيان دعوات إلى التفاوض، وعدم تصعيد الأمور، وهو ما سننطلق من خلاله لذكر أبرز الاحتمالات المرتقبة لتلك الأزمة، والأسباب التي قد تدفعنا لترجيع احتمال على الآخر.

الاحتمال الأول: احتمال المواجهة:

يُعد هذا الاحتمال هو أكثر الاحتمالات انتشاراً وذات صيت كبير مؤخراً؛ خاصة في ظل وصول الرئيس الأمريكي الحالي ترامب إلى السلطة وتصريحاته القوية ضد طهران، والتي عززها بقراراته المثيرة للجدل بالانسحاب من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات، علاوة عن حديثه في أكثر من مناسبة عن إقامة تحالف عسكري استراتيجي في المنطقة لمواجهة الخطر الإيراني وتطويقه، ذلك التحالف الذي يرى الكثير أنه سيكون ثمرة ما يُعرف بصفقة القرن الشهيرة، والتي سنتحدث عنها بشيء من التفصيل في أحد السيناريوهات الفرعية لهذا الاحتمال؛ حيث أننا نرى أن هذا الاحتمال قد يتحقق بشكلين، إما حرب مباشرة أو حرب بالوكالة.

الحرب المباشرة:

يقوم هذا الاحتمال على قيام الولايات المتحدة بشن هجوم على إيران بشكل مباشر سواء بشكل منفرد أو على شكل تحالف دولي كما حدث من قبل في حرب تحرير الكويت وحرب العراق 2003م، ويدعم من هذا السيناريو حجم الاستعدادات الأمريكية الأخيرة في الخليج؛ حيث قامت بإرسال حاملة الطائرات إبرام لينكولن، هذا علاوة على حجم المبالغ التي دفعتها دول الخليج وبالأخص المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة في مقابل تعهد أمريكي بحماية المنطقة من أي اعتداء أمريكي، وهو ما أكد عليه الرئيس الأمريكي بنفسه في إحدى خطاباته، هذا علاوة على التهديدات الأمريكية المستمرة بأن الخيار العسكري ما يزال متاحاً وممكناً، بالنظر إلى التواجد العسكري الأمريكي المكثف في المنطقة؛ حيث يوجد الأسطول الأمريكي الخامس بكامله في البحرين، علاوة على أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة وهي قاعدة العديد المتواجدة لدى قطر والتي تعد أقرب القواعد التي يمكن للولايات المتحدة أن تنفذ من خلالها هجوماً مباشراً على الأراضي الإيرانية، كما تمتلك الولايات المتحدة قاعدة ظفر الإماراتية، إلى جانب أماكن تمركز قوات المارينز الأمريكية في جبل علي بالإمارات، ولا يفوتنا هنا ذكر قاعدة أنجلرليك التركية أيضاً التي قد تلعب دوراً كبيراً في حال وافقت تركيا على استخدام الولايات المتحدة لتلك القاعدة لضرب الأراضي الإيرانية.

وعلى الرغم من الحجم الضخم للقوات الأمريكية في الخليج علاوة على التواجد الغربي المكثف في المنطقة، إلا أن قرار الحرب المباشرة لن يكون قراراً سهلاً بالمرة على الولايات المتحدة؛ من جهة سيتعين على الرئيس الأمريكي حشد دعم الرأي العام الأمريكي بشكل خاص والعالمي بشكل عام لدعمه في حرب قد تكون طويلة الأجل في مواجهة خصم يجيد استخدام تكنيك حروب العصابات علاوة على امتلاكه الكثير من الميليشيات المختلفة التي بالتأكيد ستعمل لصالحه وستعرض مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة لخطر، وبخاصة إسرائيل التي ستصبح في مرمى الصواريخ الإيرانية القادمة من حزب الله خاصة في ظل اعتراف القيادات العسكرية الإسرائيلية ذاتها بخطر حزب الله وضرورة تحييده قبل اندلاع حرب مع إيران لحماية الأمن القومي الإسرائيلي، والأمر ذاته ينطبق على الحلفاء في الخليج؛ نظراً للتواجد الإيراني في اليمن عبر الحوثيين والذين أثبتوا قدرتهم على شن ضربات صاروخية على المملكة العربية السعودية والتي كان آخرها الصاروخ الذي اطلق على مكة مؤخراً هذا علاوة على المحاولة الحوثية الأخيرة لاستهداف بطارية صواريخ باتريوت أمريكية في مطار نجران السعودي؛ ما قد يعتبر انذاراً إيرانياً للجميع أن مصالحكم في خطر في حال حاولتم العبث معنا عسكرياً.
من جانب آخر فإن القرارات الأمريكية الأخيرة في الملف الإيراني شهدت معارضة دولية كبيرة من باقي الدول الكبرى التي وقعت على الاتفاق النووي، وعلى الرغم من الرفض الأوروبي للقرار الإيراني بتعليق بعض التزاماتها في الاتفاق، إلا أنهم لن يقبلوا ومن الصعب جداً إقناع الرأي العام الداخلي بمشروعية حرب ضد طهران في الوقت الحالي، خاصة في ظل ما يعانيه الاتحاد الأوروبي نفسه من أزمات داخلية متعددة وبخاصة تصاعد اليمين المتطرف في دوله المختلفة، علاوة على أزمة البريكست الحالية. أيضاً فإن أقرب الحلفاء العسكريين لطهران وهم الروس قد أعلنوا تأييدهم للقرار الإيراني الأخير بتعليق بعض الالتزامات في الاتفاق النووي، كما لا يمكن تخيل أن يسمح الروس بحرب أمريكية جديدة على حدودهم الجنوبية، فروسيا اليوم ليست روسيا التي خرجت من رحم الاتحاد السوفيتي المنهار، كما أنها حققت نجاحات كبيرة جدا ً على الصعيد السوري ونجحت في إبقاء حليفها في السلطة حتى الآن في انتصار واضح وصريح على الدول الغربية التي بدأت في تغيير موقفها من بقاء نظام الأسد بعدما كانوا مصرين على ضرورة اسقاطه.



وبالتي لا يتوقع بأي حال من الأحوال أن يسمح الروس للأمريكيين بإسقاط النظام في طهران وبخاصة لو كان هذا الاسقاط في شكل الحرب المباشرة سواء بشكل أحادي أو في شكل تحالف دولي، وهو الشكل الأصعب للتحقق في الوقت الحالي؛ نظراً لحالة المعارضة الدولية للقرارات الأمريكية في الملف الإيراني، وهو ما يجعل استخراج قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة أمراً شبه مستحيل، خاصة وأنه حتى الصين لم تلتزم بالقرار الأمريكي الأخير بمقاطعة النفط الإيراني.

كما أنه من الصعوبة بمكان على الولايات المتحدة رغم امتلاكها القدرات اللازمة ضرب إيران بشكل مباشر، لما قد يسببه ذلك من أزمة دولية قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه، هذا أخذا في الاعتبار أن الرأي الداخلي الأمريكي لا يقف في صف الرئيس الأمريكي للعديد من الأسباب الداخلية، كما أن أحداث حرب العراق لا تزال ماثلة في أذهان الأمريكيين.
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن هناك العديد من التقارير التي تتحدث عن عدم رغبة ترامب في شن حرب على إيران على الرغم من الحشد الأمريكي العسكري الضخم في الخليج، خاصة وأن ترامب قد صرح مؤخراً أنه راغب في أن يتصل به الإيرانيون من أجل توقيع اتفاق جديد بدلاً من سيناريو الحرب، علاوة على وعد انتخابي قدمه ترامب قبل ذلك عن عدم توريط الولايات المتحدة في حرب إقليمية جديدة، كل ذلك بالتأكيد يدعم صعوبة تحقق هذا السيناريو للعديد من الأسباب الداخلية والخارجية ومن ثم، فإننا سننتقل للحديث عن السيناريو الفرعي الثاني وهو سيناريو الحرب بالوكالة وهو السيناريو الذي تتحدث عنه الكثير من التحليلات باعتباره السيناريو الأنسب في حال اختيار الولايات المتحدة محاربة إيران دون المرور بكل العوائق السابقة، وهو ما سنتحدث عنه في السطور التالية.

الحرب بالوكالة:

منذ وصول ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة وهو لديه تصور أو يمكن القول نموذج يمكن تطبيقه على منطقة الشرق الأوسط بهدف تجنيب الولايات المتحدة اضرار التدخل المباشر في المنطقة لتجنب الأخطاء التي وقع فيه سابقوه وهذا التصور يقوم على توكيل حماية تلك المنطقة الحيوية إلى حلفاء الولايات المتحدة فيها، وهم بكل تأكيد العرب وإسرائيل إلى جانب تركيا ذات الأهمية الجيوبوليتيكة، وذلك لمواجهة الخطر الإيراني دون أن تضطر الولايات المتحدة إلى التواجد بصفة دائمة للتصدي للتهديدات الإيرانية المختلفة.

ولكن فإن هذا التصور تقف أمامه عقبة كؤود لا تزال قائمة إلى الآن وهي التي تسببت في منع العديد من المشروعات الأمريكية المماثلة أيام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وعلى رأسها فكرة تحالف بغداد الشهير، ألا وهي القضية الفلسطينية التي لا تزال حتى الآن تمنع اتحاد العرب وإسرائيل على مقتضى الرؤية الأمريكية لحماية منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية للولايات المتحدة من التدخلات الدولية والإقليمية بها، وبالتالي كان على ترامب إذا أراد أن يوف بوعده الانتخابي من تجنيب الولايات المتحدة التورط في حرب إقليمية وتكرار أخطاء سابقيه، وأن يحقق الاستقرار في المنطقة على مقتضى المصالح الأمريكية، أن يعمل على حل القضية الفلسطينية بهدف إقامة تحالف استراتيجي في المنطقة يعمل على حمايتها وهو ما عُرف لاحقاً بالناتو العربي، أو تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي حسب ما أسماه ترامب لاحقاً.

وكان من المقرر أن يضم 8 دول عربية هم الست دول المكونة لمجلس التعاون الخليجي إلى جانب الأردن ومصر بطبيعة الحال إلى جانب إسرائيل بعدما يتم حل القضية الفلسطينية. ونظراً للخلفية الاقتصادية للرئيس الأمريكي رأى أن أفضل السبل لحل الأزمة التي استعصت على الحل لسنوات هو سبيل الصفقة؛ حيث تقوم الولايات المتحدة بعرض صفقة على طرفي الصراع تهدف إلى إرضاء مطالب الطرفين، وهذه الصفقة قابلة للتعديل بالطبع وصولاً إلى أنسب الحلول التي يتفق عليها الطرفان، وذلك بدلاً من اجبارهم على العودة إلى طاولة المفاوضات وقضاء مزيد من الوقت في محاولات لا جدوى منها وأثبتت فشلها مرات ومرات، خاصة وأن الرئيس الأمريكي لا يؤمن بجدوى الأدوات الدبلوماسية والتي وصفها في الكثير من المناسبات بأنها أدوات عقيمة لا جدوى منها. ومن هنا خرج الرئيس الأمريكي بما عُرف إعلامياً بصفقة القرن والتي لم تكن أقل جدلاً عن مختلف القرارات التي اتخذها الرئيس الأمريكي منذ وصوله إلى السلطة.

وقد سميت الصفقة بهذا الاسم لأنها ستحل أكثر القضايا التي استعصت على الحل في المنطقة وستمهد لتحالف استراتيجي لحلفاء الولايات المتحدة بالكامل ضد إيران سعياً وراء احتوائها ريثما تنتهي الولايات المتحدة من صراعها الكوني مع روسيا والصين الساعيتان لتغيير بنية النسق الدولية ونزع صفقة الدولة العظمى عن الولايات المتحدة التي ظلت تتمتع بها منذ انهيار السوفييت في عام 1991م.

ومن ثم فقد عملت الإدارة الأمريكية على صياغة صفقة جديدة لحل القضية لا تقوم على أي نوع من أنواع التفاوض على نحو ما أسلفنا، وإنما تقوم على عرض حاولت فيه الولايات المتحدة تجنب الخطوط الحمراء فيه قدر المستطاع؛ حيث قبلت بدولة فلسطينية مستقلة، ولكن على الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل- من الجدير بالذكر أن السلطة الفلسطينية تعترف بإسرائيل منذ اتفاق أوسلو الشهير- ولكن يزيد على ذلك الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والتي تم نقل السفارة الأمريكية إليها بالفعل، إلى جانب إلغاء عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى فلسطين، وإنما سيتم توطينهم لدى دول الجوار العربي مع التكفل بتمويل تلك العملية والتلويح بمساعدات اقتصادية قوية للدول العربية في مقابل ذلك، مع إنشاء مشروعات مشتركة بين مصر والأردن وإسرائيل وعدد آخر من الدول العربية بهدف الارتقاء باقتصاد المنطقة وإعطاء امتيازات للفلسطينيين على إثرها تمكنهم من الاندماج مع الواقع الجديد، وهو ما كان أسماه كوشنر صهر ترامب بالسلام الاقتصادي، وفي سياق متصل خفضت الولايات المتحدة عدد اللاجئين الفلسطينيين إلى نصف مليون فقط بدلاً من 5.5 مليون لاجئ حسبما تقدرهم وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة والتي الغت الولايات المتحدة دعمها لها مؤخراً قائلة أنها جزء من تعقيد الصراع في المنطقة. إضافة إلى ذلك ستكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح للاستجابة للمطالب الأمنية الإسرائيلية، وفي مقابل ذلك فإنه سيتم صنع قدس شرقية جديدة عبر اخراج الأحياء العربية في القدس الشرقية منها ثم ربطها عبر أنفاق لتصبح القدس الشرقية بالفعل خارج حدود إسرائيل حسب تلك الصفقة وضمن حدود فلطسين المنتظرة، غير أن ذلك سيعني أن حدود إسرائيل ستمتد إلى داخل الضفة الغربية وتسيطر على نحو 12% من مساحتها والتي تناقلت بعض التسريبات عن تعويض تلك المساحة من أراض في سيناء المصرية، أيضاً وضعت الصفقة حلاً معقداً لمسألة المستوطنات الإسرائيلية؛ حيث جعلتها مناطق مؤجرة لمدة 35 عام داخل حدود الدولة الفلسطينية وتحت سيادتها.

وبالطبع لم تكن تلك الصفقة لترضي أي طرف من الأطراف وهو ما حكم عليها بالفشل سريعاً؛ ما دفع الإدارة الأمريكية إلى تقديم صفقة بديلة سربت معلوماتها احدى الصحف الإسرائيلية على الرغم من عدم وجود أي تعليق رسمي من أي الأطراف على تلك الصفقة حتى الآن، وقد تحدثت الصفقة الجديدة عما يلي.

إقامة دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية دون المستوطنات الإسرائيلية وغزة، وتعترف الدولتان ببعضهما البعض، أما بالنسبة للقدس فتظل كما هي دون أي تقسيم وسيسمح للسكان العرب أن يدخلوها ويسكنون بها كمواطنين فلسطينيين وليس إسرائيليين، على أن تكون بلدية القدس مسئولة عن كل شيء باستثناء التعليم الذي سيكون تحت سيطرة فلسطين الجديدة مقابل دفع ضرائب إلى بلدية القدس الإسرائيلية، هذا علاوة على منع كل من السكان العرب أو الإسرائيليين من شراء منازل بعضهم البعض، كما ستكون دولة فلسطين الجديدة منزوعة السلاح وتتولى إسرائيل الدفاع عنها بمقابل مادي، مع تسليم سلاح المقاومة الفلسطينية حماس إلى المصريين، كما تعمل مصر على تخصيص أراض من سيناء لبناء مطار ومركز للتبادل التجاري بهدف المساهمة في تشغيل الفلسطينيين والارتقاء بمستواهم الاقتصادي، دون السماح لهم بالسكن أو تملك أية أراضي داخل سيناء.

هذا إلى جانب تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين بمختلف المشروعات الاقتصادية التي ستعمل الدول الخليجية على دعمها، ولم تكتف الصفقة بذلك وإنما وضعت عقوبات على أي طرف يرفض هذه الاتفاقية.

واستخلاصاً لما سبق يتضح لنا أن الولايات المتحدة أدركت أن الصفقة بصفقها القديم لا يمكن لها أن تتحقق حتى لو أقدمت الولايات المتحدة على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وفرضت الأمر الواقع، فإن ذلك لن يؤدي لتحقيق المبتغى الأمريكي الأبعد من تلك القضية، ألا وهو إقامة التحالف سالف الذكر لمواجهة إيران وطموحاتها التوسعية في المنطقة عبر حلفائها في المنطقة، وعلى الرغم من عدم وجود أي رد أو تعليق من الدول المعنية بهذه الصفقة حتى الآن إلا أن توقيت ظهورها بالتزامن مع الخطوات الأمريكية المتصاعدة تجاه طهران قد يدعم من سيناريو الحرب بالوكالة في حالة نجاح تلك الصفقة في انهاء القضية الفلسطينية وتعزيز السلام بين العرب وإسرائيل سعياً وراء التحالف لمواجهة العدو المشترك من وجهة النظر الأمريكية، وهو الأمر الذي تعمل على ترويجه الصفحات الإسرائيلية الناطقة بالعربية على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً.
أيضاً لا يفوتنا هنا ذكر القمة الأخيرة التي دعت إليها المملكة العربية السعودية في مكة بهدف مواجهة الخطر الإيراني، خاصة بعد حوادث التخريب الأخيرة التي تحدثنا عنها في الـ 30 من الشهر الجاري -بالتزامن مع القمة الإسلامية-، وهو ما قد يسفر عن الخروج باتفاق دفاعي لمواجهة إيران في ظل العزم الأمريكي على تحييد خطر إيران واجبار قياداتها على الرضوخ للمطالب الأمريكية شريطة عدم التورط الأمريكي في حرب جديدة، وهو ما يعزز من سيناريو الحرب بالوكالة، والذي نرى أنه سيكون الأقرب للتحقق في حال رأت الولايات المتحدة ضرورة مواجهة إيران عسكرياً، نظراً لشبه استحالة الحرب المباشرة لما اسلفناه من أسباب.

الاحتمال الثاني: احتمال المهادنة:

اتفاق جديد:
منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي القديم وهي تتحدث عن ضرورة وضع اتفاق جديد يحدد العلاقات مع إيران في كل الملفات الشائكة والتي ترى الإدارة الحالية أن الإدارة السابقة قد أغلفتها في الاتفاق السابق؛ حيث ترى الإدارة الحالية أن كل هم الإدارة السابقة كان فقط التوصل لحل يمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، بل حتى ذلك الهدف لم تنجح الإدارة السابقة في تحقيقه؛ حيث نص الاتفاق على تأجيل هذا الهدف إلى عام 2025م، ومن ثم فإن الاتفاق السابق كان اتفاقاً معيباً من وجهة نظر الإدارة الحالية لا يحقق مصالح الولايات المتحدة ولا حلفائها، وبالتالي كان لابد من إلغاءه ووضع اتفاق جديد يراعي المصالح الأمريكية.

ومن هنا خرج وزير الخارجية الأمريكي بومبيو بتصريح عقب قرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق السابق، أن على إيران إن أرادت تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة عليها أن توافق على المطالب التالية والتي يجب أن يتم تضمينها في أي اتفاق مستقبلي بين الولايات المتحدة وإيران، وقد تمثلت تلك المطالب في الآتي:

إيقاف أية عمليات لتخصيب اليورانيوم، إلى جانب تقديم تقريراً دورياً إلى وكالة الطاقة الذرية عن البعد العسكري للبرنامج النووي الإيراني للتأكد من سلميته وعدم استخدامه لأية أغراض عسكرية، هذا بالإضافة إلى السماح لمفتشي الوكالة للوصول إلى كل الأماكن في البلاد، مع وقف نشر الصواريخ الباليستية فضلاً عن وقف تطوريها لتكون قادرة على حمل رؤوس نووية في المستقبل.

لم تقف المطالب الأمريكية عند هذا الحد أيضاً، فأضاف وزير الخارجية أن على إيران سحب كل قواتها من سوريا، وعدم عرقلة جهود حل التشكيلات الشيعية في العراق، إلى جانب وقف الدعم لكل التنظيمات الإرهابية التي ترعاها إيران وبخاصة حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن، فضلاً عن ايقاف عمليات فيلق القدس التابع للحرس الثوري والذي يعد القوات المسلحة التابعة للحرس، مع إطلاق سراح كل المحتجزين من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، علاوة على إيقاف العمليات السيبرانية على الولايات المتحدة وحلفائها.

وبالتالي يمكن القول إن المطالب الأمريكية تلك تهدف إلى انهاء كل أشكال النفوذ الإيراني في المنطقة، وبخاصة شكل النفوذ العسكري باعتباره الأكثر وضوحاً في تلك الفترة، وهو الأمر الذي كانت الإدارة الأمريكية السابقة قد أغفلته.

ولكن فإنه من غير المتوقع أن توافق الإدارة الإيرانية على هذه المطالب التي تعني حال تحققها تنفيذ حكم الإعدام على كل المساعي الإيرانية التي سعى النظام الإيراني منذ نشأته إلى تحقيقها لجعل إيران دولة إقليمية قوية تمتلك من النفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي ما يجعلها قادرة على حماية نفسها في محيط لا يرغب في بقائها. ولذا دمجت الولايات المتحدة مطالبها تلك بالعقوبات الاقتصادية على إيران، علاوة على حث باقي دول العالم على مقاطعة النفط الإيراني، بهدف إجبار النظام الإيراني على التراجع عن سياسته الخارجية ويرضخ للمطالب الأمريكية التي تستهدف الحد من النفوذ الإيراني قدر الإمكان، ولكن إلى أي مدى يمكن أن ترضخ إيران لتلك المطالب المتشددة.

في حقيقة الأمر فإن الموقف الإيراني لايزال صامداً إلى الآن وعلى الرغم من الضغوط الأمريكية المختلفة، فإن النظام الإيراني لا يزال مصراً على رفض تلك المطالب ورافضاً للتنازل عن أية مكاسب قد نجح في اقتناصها من وراء الاتفاق الإيراني السابق، وقد انعكس ذلك أيضاً على رفض النظام الإيراني لقبول دعوات الرئيس الأمريكي للتفاوض وإعلانه رغبته في أن يتصل به الإيرانيون، ولكن حتى الآن يرفض النظام الإيراني الاتصال بالإدارة الحالية بهدف التوصل إلى اتفاق ينهي المعاناة الاقتصادية لطهران، ويعمل على حل تلك الأزمة.

ولكن من جهة أخرى فإنه من غير المتوقع أن يقبل النظام الإيراني بهذه المطالب الأمريكية، التي تعني كما أوضحنا في السابق إنهاء نفوذ إيران بالكامل في المنطقة، فضلاً عن أنها ستضعف طهران وستجعل أمنها القومي عرضة للخطر الدائم كونها نظام غير مرغوب به في المنطقة من قبل جيرانها العرب وإسرائيل؛ فقد كان الهدف الإيراني من دعم الميليشيات الشيعية المختلفة، والسعي لامتلاك السلاح النووي، هو ردع أي طرف عن التفكير في مهاجمة إيران؛ فحزب الله قادر على ردع أية محاولة إسرائيلية لمهاجمة إيران كما فعلت من قبل مع النظام العراقي والسوري خاصة في ظل السعي الإيراني لامتلاك السلاح النووي، ومن جهة أخرى فإن الأقليات الشيعية والميليشيات الشيعية في شبه الجزيرة العربية وبخاصة الحوثيين قادرين على ردع الخليج عن محاولة الهجوم على طهران أو تهديد مصالحها.

وبالتالي فإن رضوخ إيران للمطالب الأمريكية الحالية أمر صعب خاصة وأن إيران قد نجحت في الحصول على اتفاق أفضل منه في السابق دون أن تكون مدعومة من الروس والصينيين، فما الذي قد يجبرها على الرضوخ الآن والقوى الكبرى رافضة للتصرفات الأمريكية تجاه الملف الإيراني، فكما ذكرنا لاتزال أوروبا متمسكة بالاتفاق ورافضة للتصرفات الأمريكية، ولا تزال الصين مستمرة في الحصول على النفط الإيراني على الرغم من الضغوط الأمريكية على بكين، والتي نرى أنها لن تزيد الأخيرة إلا تمسكاً بمواقفها ودعمها لطهران، علاوة على الدعم الروسي الصريح للموقف الإيراني من التصرفات الأمريكية خاصة بعد القرار الإيراني الأخير بتعليق بعض التزاماتها بالاتفاق النووي الحالي، ومن ثم فإن مواقفة طهران على اتفاق جديد بهذه المطالب الحالية هو أمر غاية في الصعوبة، ولكن هذا قد لا يعني رجوع الولايات المتحدة عن قرارها السابق بالانسحاب من الاتفاق الحالي على الأقل في ظل وجود الرئيس الأمريكي الحالي على رأس الإدارة الأمريكية. وهو ما يقودنا إلى تقديم وجهة نظرنا في مستقبل تلك الأزمة الحالية ومستقبل العلاقات ما بين إيران والولايات المتحدة، وهل من الممكن أن نشهد حرباً جديدة في الإقليم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، أم أن الأمور يمكن أن تهدأ قليلاً باتفاق جديد، أم أن أقرب الاحتمالات هو العودة إلى الاتفاق الحالي، وهو ما سنتحدث عنه في السطور التالية.

في حقيقة الأمر فإننا نرى أن خيار استخدام القوة المسلحة حالياً ضد إيران، أمر شبه مستحيل في ظل توزيع القوى العالمي حالياً، فلا يمكن أن يقبل الروس بضربة أمريكية جديدة على حدودهم الجنوبية خاصة بعد تواجدهم العسكري في سوريا وحمايتهم لحليفهم الأسد من السقوط، وبالتالي فإن هجوم أمريكي مباشر أمر غير متوقع على الأقل في الظروف الحالية لغياب التوافق الدولي حوله، بل إن السائد هو معارضة دولية للتصرفات الأمريكية الأخيرة تجاه العديد من الملفات وعلى رأسها الملف الإيراني.

أما الاحتمال الثاني والمتعلق بإمكانية شن حرب بالوكالة على طهران فإنه يمتلك حظوظاً للتحقق أكثر من سابقه وذلك بسبب توافر الرغبة الخليجية في تحققه مع دعم أمريكي لتلك الرغبة، خاصة وأنها ستحمل عنها عبء شن حرب مباشرة أقرب إلى الاستحالة منها إلى التحقق، خاصة وأنها ستعد انتهاكاً لوعد انتخابي قدمه ترامب في الانتخابات السابقة، وسيحتاج إلى التأكيد على تمسكه به مع قرب الانتخابات الأمريكية الجديدة، ولكن من جهة أخرى فإن تحقق هذا الاحتمال يتطلب من وجهة النظر الأمريكية تحالف شرق أوسطي كامل ضد طهران حتى لا تؤدي الأمور إلى حرب إقليمية تطول وقد تنقلب فيها النتائج، وهذا التحالف صعب التحقق حتى الآن في ظل عدم قدرة ترامب على وضع حل بأسلوب الصفقة للقضية الفلسطينية حتى مع التغيرات الأخيرة التي ذكرناها، فإن المتوقع أن أطراف القضية سترفضها نظراً لكون القضية تعني لأطرافها قضية وجود وليست مجرد صفقة يسعى كل طرف فيها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة، خاصة مع رفض القاهرة وعمان لأي حل لا يجعل من القدس الشرقية عاصمة لفلسطين الجديدة على حدود عام 1967م وفقاً للمقررات الدولية، وهو أمر ترفضه إسرائيل بشدة، ما يعوق هذا التحالف من الاكتمال على الرغبة الأمريكية لتحقيق الهدف المطلوب، ومن غير المتوقع أيضاً أن تقدم دول الخليج على شن ضربة عسكرية باتجاه طهران في ظل أسلوب الحياد التي تتبعه القاهرة عسكرياً وهي أقرب الحلفاء الإقليميين حالياً للخليج في ظل توتر العلاقات مع الاتراك بعد الأزمة القطرية وانحياز تركيا إلى قطر على حساب حلفائها الخليج، علاوة على تقاربها مع المحور الروسي الإيراني؛ ما يجعل دعمها لضربة عسكرية خليجية أمر شديد الصعوبة على الأقل في ظل وجود أردوغان على رأس الإدارة التركية الحالية.

ومن ثم فإننا نرى أن التصرفات الأمريكية والإيرانية الحالية أقرب إلى تطبيق سياسة حافة الهلوية من الشروع بشكل جدي في الاستخدام الفعلي للأساليب القسرية سواء في شكل اقتصادي أو سياسي، فمن جهه لا نعتقد أن الولايات المتحدة ترغب في التخلص تماماُ من نظام طهران الحالي؛ خاصة وأنه يعطي شرعية ومبرر للتواجد الأمريكي العسكري المكثف في الخليج الأمر الذي جعله أقرب إلى منطقة نفوذ أمريكية خالصة، ومن جهة أخرى يضمن استمرار مبيعات السلاح الأمريكي إلى المنطقة واستمرارها في إبرام الصفقات العسكرية الضخمة مع قيادات الخليج، وهو أمر يحرص ترامب على استمراره وهو ما انعكس على موقفه من مقتل الصحفي السعودي رغم وجود العديد من الأدلة القوية التي توضح تورط بعض أعضاء الأسرة الحاكمة السعودية في ذلك الحادث، ومن جانب آخر لا نعتقد أن ترامب يرغب في تكرار أخطاء سابقيه وجر الولايات المتحدة في مغامرة إقليمية جديدة غير محمودة العواقب فضلاً عن استحالتها في ظل الظروف التي أوردناها سابقاً.
وعلى الجانب الآخر أيضاً فلا نعتقد أن طهران ترغب في محاربة الولايات المتحدة أو اجبارها على الدخول في حرب معها، وهو ما أكدته تصريحات المرشد الإيراني من أنه لا حرب جديدة في الخليج، والتصريحات الإيرانية عن عدم رغبة إيران في حرب مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي أيده ترامب أيضاً داعياً الإيرانيين إلى الاتصال به لوضع اتفاق جديد مقابل التطبيع الاقتصادي مع طهران والسعي لدمج إيران في الاقتصاد العالمي، علاوة على أن التواجد الأمريكي في الخليج على كثرته لا يمكن أن يخدم حرباً مباشرة أو عمل عسكري كبير ضد طهران؛ نظراً لافتقاره للعنصر البري الذي ستحتاج الولايات المتحدة لشهور لحشده وهو أمر يمكن أن تتنبأ به طهران عبر حلفائها المختلفين وتهيئ نفسها له جيداً.

ومن ثم فإننا نرى أن ما يحدث هو مجرد حرب نفسية بين الطرفين سعياً للوصول إلى اتفاقية جديدة ترضي جميع الأطراف؛ أي أن طهران وواشنطن يتبعان سياسة حافة الهواية القائمة على جر الأمور إلى الهاوية دون الوقوع بها بالفعل والهاوية هنا هي حرب إقليمية مستعرة لا يحمد عقباها قد تتصاعد إلى حرب تدمر الجميع في ظل حالة التوتر التي يعيشها العالم حالياً مع مرور النسق الدولي بحالة انتقالية جديدة قد تسفر عن تغييره من النسق الأحادي الذي عرفناه ما بعد الحرب الباردة إلى الآن، ومن ثم فإن من مصلحة الجميع الوصول إلى تسوية مرضية للجميع، فمن المتوقع أن تصمد طهران طويلاً أمام الضغط الأمريكي كما صمدت من قبل خاصة في ظل وجود دعم دولي لها هذا المرة، ومن المتوقع أيضاً أن واشنطن لا تهدف إلى اسقاط نظام طهران الحالي وإنما تهدف فقط إلى تطويع أهدافه وسياساته لتتماشى مع أمن حلفائها في المنطقة، لضمان استمرار الملاحة في الخليج وضمان استمرار تدفق البترول عبره إلى الأسواق العالمية، وهو أمر ذو أهمية حيوية للولايات المتحدة، ويأتي على رأس أهداف سياساتها الخارجية تجاه المنطقة.

وفي الختام فإننا نرى أن الأمور في طريقها إلى اتفاق جديد لا ينزع نفوذ طهران في المنطقة بشكل كامل ولكنه يحمي أيضاً أمن حلفاء واشنطن، قد يكون ذلك بقبول طهران بالتخلي عن السلاح النووي مقابل تعهد أمريكي إسرائيلي بعدم السعي لإسقاط نظام طهران، مع طمأنة دول الخليج باستمرار الدعم العسكري لهم وتعهد إيراني بعدم السعي لإسقاط ملكيات الخليج والاكتفاء بما حققته طهران من مواقع نفوذ تضمن به أمنها القومي شريطة عدم الإضرار بأمن الدول الأخرى بالمنطقة، ومن ثم فإن طهران قد تسحب قواتها من الجنوب السوري تطبيقاً لهذا الاتفاق، وتعمل على سحب الحوثيين من ميناء الحديدة اليمني، وربما يقود هذا الاتفاق إلى تسوية للأزمتين السورية واليمنية على نحو يضمن توزيع النفوذ على مستوى الأطراف المتصارعة في ظل استحالة انتصار طرف على الأخر بالأخص في اليمن، أما سوريا فيمكن القول أن النفوذ بها قد حسم بشكل كبير لمصلحة المحور الروسي الإيراني السوري، ومن المتوقع أيضاً أن يتم رفع العقوبات الأمريكية من جديد على طهران عقب توقيع هذا الاتفاق مع مراقبة طهران عن كثب للتأكد من عدم استخدامها للأموال التي ستحصل عليها في زيادة نفوذها في المنطقة من جديد ما يعيدنا إلى نقطة الصفر.

ولكن هناك نقطة أخرى لا يمكن أن نغفلها عند حديثنا عن مستقبل تلك الأزمة التي قد تعيد تشكيل المنطقة، ألا وهي أن توقيع اتفاقاً جديداً ليس من شأنه انهاء التوتر بين واشنطن وطهران إلى الأبد، إنما يمكن القول أنه سيكون مسكن قصير الأجل للطرفين حتى تتغير الظروف لمصلحة أحدهما وبالتالي سيتحرك لتحقيق أهدافه، وهو الأمر السائد في العلاقات الدولية كونها علاقات ديناميكية تأبى الثبات والاستقرار، فقد رأينا ألمانيا تقبل بفرساي وقت هزيمتها ورأينا ألمانيا وهي تمزق فرساي عندما سنحت لها الفرصة، ومن ثم فإننا نتوقع أن تقبل طهران في نهاية المطاف باتفاق جديد قد يتضمن بنوداً مما ذكرناها وربما أكثر أو أقل حسب جولات المفاوضات بين الأطراف وحسب قدرة كل طرف على المناورة لأخذ ما يمكن من المكاسب، ولكن هذا لن يلغي أبداً التعارض الواضح في المصالح بين طهران وواشنطن، وحينما ستسنح الفرصة والظروف لأي منهما فإنه سرعان ما سيلقي بهذا الاتفاق عرض الحائط وينطلق محققاً أهدافه ومصالحه.

وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام حديثنا عن واحدة من أهم الأزمات التي تهدد أمن واستقرار المنطقة، بعدما عرضنا لطبيعة العلاقات الدولية بين طهران وواشنطن منذ الثورة الإيرانية، مع توضيح المسار الزمني تجاه الاتفاق النووي، ثم ذكرنا الأسباب التي دفعت كل من الإدارة السابقة لتوقيعه والإدارة الحالية للانسحاب منه وإعادة فرض العقوبات التي أوضحنا أثرها على الاقتصاد الإيراني، وهو ما قادنا نحو عرض أبرز الاحتمالات المستقبلية للأزمة الحالية، مع توضيح أيهما أقرب للتحقق من وجهة نظرنا على أرض الواقع.
*المركز الديمقراطي العربي
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 18-أبريل-2024 الساعة: 05:51 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://www.saadahpress.net/news/news-41789.htm